حين نسمع أو نقرأ أن فلانا من الناس عفا عن قاتل ابنه أو أبيه مقابل دية بعشرة أو عشرين مليونا فعلينا أن نتنبه إلى أن ثمة مغالطة كبيرة في ما سمعنا أو قرأنا فليس في ذلك عفو وليس لمن يوهمنا الخبر أنه قد عفا فضل وكرم من يتخلق بخلق العفو والتسامح والتنازل عما هو حق له سواء كان هذا التنازل خالصا لوجه الله أو استجابة للوساطات والشفاعات.
أولئك الذين يأخذون الدية التي أقر الشرع مقدارها، أو يشترطون أضعافها مضاعفة مما كاد أن يجري به العرف، أولئك لا يمكن وصفهم بالعافين فهم إنما اختاروا واحدا من خيارين يستوفون بأحدهما ما لهم من حق؛ القصاص أو الدية، أما العفو فشأن آخر يختلف عنهما، فهو تنازل عن القصاص وترفع عن أخذ الدية في الوقت نفسه والتماس الأجر من الله أو الصيت الحسن عند الناس عوضا عن ذلك كله.
الخلط الذي نراه في ما نقرأ أو نسمع، وإلباس من يربطون تنازلهم بملايين مضاعفة يستلمونها ممن صدر في حقه حكم القصاص، هذا الخلط الذي يجيء مشفوعا بالثناء والحمد والتمجيد لمن تنازل عن القصاص واستلم تلك الملايين فتح الباب واسعا لضرب من المتاجرة المقيتة في المزايدة في أثمان الديات على نحو لا يكشف عن غياب فضيلة التسامح فحسب بل استشراء روح الطمع كذلك في مجتمعات كانت ترى قديما أن أخذ الدية المحددة شرعا أمر ينبغي الترفع عنه والسمو عن اعتبار المال معادلا لمن فقدوه ولذلك لم يكن لهم سوى واحد من خيارين؛ القصاص وفيه شفاء لأنفسهم أو العفو وفيه تأكيد لفضلهم ونزاهتهم.
ما يحدث الآن من مزايدة في الديات لا يخرج عن باب الشره والطمع الذي لا يخلو من الرغبة في إذلال الخصوم من ذوي من وجب عليه القصاص وإرغامهم على تسول الناس كي يجمعوا لصاحب الدم ما طلبه من دية وما اشترطه مقابل تنازله عن القصاص.
لقد أصبح سوق الديات مجالا خصبا للتربح والإثراء على حساب كل المبادئ والقيم التي كانت سائدة في المجتمع ولا يزال لدينا من يتوهم أننا نحن المجتمع الفاضل القائم على التسامح والحريص على العدل والحق، لا يزال لدينا من يعتقد أننا المجتمع الفاضل رغم هذا السوس الذي ينخر في كل قيمة كان ذات يوم يفخر بها.